بسم الله الرحمن الرحيم

 

فتـح مكـة
الفتح المبين
ـ كان ذلك في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وسببها أن أناسًا من بني بكر، كلموا أشراف قريش في أن يعينوهم على خزاعة بالرجال والسلاح. (وخزاعة كانت قد دخلت في عهد المسلمين)، فأجابوهم إلى ذلك، وخرج حشد من قريش متنكرين متنقبين، فيهم صفوان بن امية، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فالتقوا مع بني بكر في مكان اسمه الوتير، وبيتوا خزاعة ليلاً وهم مطمئنون آمنون، فقتلوا منهم عشرين رجلاً، وعندئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكبًا من خزاعة، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بما أصابهم، فقام وهو يجر رداءه قائلاً:
"لا نُصرت إن لم أنصر بني كعب، مما أنصر منه نفسي" وقال: "إن هذا السحاب ليُستهل بنصر بني كعب".
وندمت قريش على ما بدر منها، فارسلت أبا سفيان بن حرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة ويماددها. وقدم أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فلم يرد عليه شيئًا، فذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما أنا بفاعل".
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال: "أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به (والذر صغار النمل)".
وانطلق أبو سفيان عائدًا إلى مكة خائبًا، لم يأت بشيء.
وتجهز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أخفى أمره، وقال: "اللهم خذ على أبصار قريش فلا يروني إلا بغتة".
ولما أجمع النبي صلى الله عليه وسلم المسير، كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يحذرهم من غارة عليهم من المسلمين. قال علي رضي الله عنه: "فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد. فقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب فخذوه منها. قال: فانطلقنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة. قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال: فأخرجته من عقاصها. فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءً ملصقًا في قريش - أي كنت حليفًا لهم ولست منهم- وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم ، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم، فأنزل الله تعالى: ]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق..[ الآيات إلى قوله تعالى: ]فقد ضل سواء السبيل[. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة كلثوم بن حسين، وخرج يوم الأربعاء لعشر ليال خلون من شهر رمضان بعد العصر، وأرسل صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من العرب: أسلم وغفار ومزينة، وجهينة وغيرهم، فالتقى كلهم في الظهران - مكان بين مكة والمدينة- وقد بلغ عدد المسلمين عشرة آلاف. ولم تكن الأنباء قد وصلت قريشًا بعد، ولكنهم كانوا يتوقعون أمرًا بسبب فشل ابي سفيان فيما جاء به إلى المدينة، فأرسلوا أبا سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء ليلتمسوا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا يسيرون، حتى دنوا إلى مر الظهران فإذا هم بنيران عظيمة، فبينما هم يتساءلون فيما بينهم عن هذه النيران، إذ رآهم أناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم أبو سفيان".
قال ابن إسحاق يروي عن العباس تفصيل إيمان أبي سفيان: "فلما أصبحن غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! .. والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئًا بعد. وقال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله، فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا، فقال له العباس: ويحك.. أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وان محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
قال العباس: فقلت يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير مقبلاً إلى مكة، قال للعباس: احبس أبا سفيان بمضيق الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فخرجت فحبسته عند مضيق الوادي حيث أمرني رسول الله صلى اله عليه وسلم أن أحبسه، ومرت القبائل عليها راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم؟ .. وهكذا، حتى مرَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد، فقال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار!.. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد اصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا ! .. فقال: يا أبا سفيان إنها النبوة، قال: فنعم إذن".
ثم قال له العباس: "النجاة إلى قومك!..فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة قبل أن يصلها رسول الله، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
فأقبلت إليه امرأته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه وهي تقول: اقتلوا الحُميْت الدسم الاحمس، قُبِّح من طليعة قوم! .. فقال: ويلكم لا تغرنكم هذه من نفوسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم والى المسجد".
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعد بن عبادة قال لأبي سفيان عندما رآه في مضيق الوادي: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة" فلم يرض عليه الصلاة والسلام بقوله هذا، وقال: بل اليوم يوم الرحمة، اليوم يعظم الله الكعبة. وأمر قادة جيوشه أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا ستة رجال وأربعة نسوة، أمر بقتلهم حيثما وجدوا، وهم عكرمة بن أبي جهل، وهبار بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة الليثي، والحويرث بن نُقَيد، وعبد الله بن هلال، وهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هشام، وفرتَنى وقرينة (وكانتا جاريتين تتغنيان دائمًا بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم).
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها (كداء) وأمر خالد بن الوليد أن يدخل بمن معه من أسفلها (كدى). فدخل المسلمون مكة من حيث أمرهم، ولم يجد أحد منهم مقاومة، إلا خالد بن الوليد، فقد لقيه جمع من المشركين فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، فقاتلهم خالد فقتل منهم أربعة وعشرين من قريش، وأربعة نفر من هذيل. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بارقة السيوف من بعيد، فأنكر ذلك، فقيل له: إنه خالد قوتل فقاتل، فقال: "قضاء الله خير".
روى ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر والحاكم عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرًا (متعممًا) بشقة بردٍ حَبِرة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل.
وروى البخاري عن معاوية بن قرة قال: سمعت عبد الله بن مغفل يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يرجّع، وقال: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع.
ودخل صلى الله عليه وسلم مكة متجهًا إلى البيت، وحوله ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده، وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد". وكان في جوف البيت أيضًا آلهة، فأبى أن يدخل وفيه الآلهة، وأمر بها فأخرجت وأخرجت صور لإبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط. ثم دخل البيت فكبر في نواحي البيت وخرج ولم يصل فيه".
وكان قد أمر صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة (وهو من حجبة البيت) أن يأتيه بالمفتاح، فجاءه به، ففتح البيت، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت، ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح، وقال له: خذوها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم (أي حجابة البيت) ولكن الله دفعها إليكم، ولا ينزعها منكم إلا ظالم. يشير بقوله هذا إلى قول الله تعالى ]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها[ [النساء: 4/58].
وأمر رسول الله بلالاً فصعد فوق الكعبة فأذن للصلاة. وأقبل الناس كلهم يدخلون في دين الله أفواجا. قال ابن إسحاق: وأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بعضادتي باب الكعبة وقد اجتمع الناس من حوله ما يعلمون ماذا يفعل بهم، فخطب فيهم قائلاً:
"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج.. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظيمها بالآباء. الناس من آدم، وآدم من تراب، وتلا قوله تعالى: ]يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا عن أكرمكم عند الله أتقاكم[. ثم قال: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وروى الشيخان عن أبي شريح العدوي أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما خاطب به الناس يوم الفتح: "إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها أناس، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الأخر أن يسفك بها دمًا أو يعضد بها شجرًا، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، فقولوا له: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن له فيه ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلغ الشاهد الغائب".
ثم إن الناس اجتمعوا بمكة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لله ورسوله، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من بيعة الرجال بايع النساء، واجتمع إليه نساء من نساء قريش، فيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة لما كان من صنيعها بحمزة رضي الله عنها. فلما دنون منه ليبايعنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئًا، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا أمرًا ما أخذته على الرجال، وسنؤتيكه، قال: ولا تسرقن. قالت: والله إن كنت لأصيب من مال أبي سفيان الهنة والهنة، وما أدري أكان ذلك حلاً لي أم لا؟ فقال أبو سفيان، وكان شاهدًا لما تقول: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل. فقال عليه الصلاة والسلام: وإنك لهند بنت عتبة؟ فقالت: أنا هند بنت عتبة، فاعف عما سلف عفا الله عنك. قال: ولا تزنين، قالت: وهل تزني الحرة قال: ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغارًا وقتلتهم يوم بدر كبارًا، فأنت وهم أعلم. فضحك عمر من قولها حتى استغرب. قال: ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
قال: ولا تعصينني في معروف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: بايعهن واستغفر لهن رسول الله، فبايعهن عمر. وكان رسول الله لا يصافح النساء ولا يمس امرأة ولا تمسه، إلا امرأة أحلها الله له".
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام، بهذه الآية: لا يشركن بالله شيئًا، قالت: وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها". وروى مسلم عن عائشة بنحوه.
"وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها، يوم الفتح، رجلاً من المشركين، وكان علي رضي الله عنه يريد قتله، قالت: فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، وفاطمة بنته تستره بثوب، قالت: فسلمت عليه، فقال: من هذه؟ فقلت: أم هانئ بنت أبي طالب. فقال: مرحبا بأم هانئ. فلما فرغ من غسله قام فصلى ثماني ركعات ملتحفًا في ثوب واحد، ثم انصرف. فقلت: يا رسول الله. زعم ابن أمي عليّ أنه قاتل رجلاً أجرته، فلان: ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
وأما أولئك النفر الذين كان رسول الله قد هدر دمهم، فقد قُتل بعضهم وأسلم الآخرون: قتل الحويرث وعبد الله بن خطل ومقيس بن حبابة، وقتلت إحدى الجاريتين المغنيتين وأسلمت الأخرى. وشفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وحسن إسلامه، وأسلم عكرمة ، وهبار، وهند بنت عتبة.
روى ابن هشام أن فضالة بن عمير الليثي أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضالة؟ قال: نعم: فضالة يا رسول الله، قال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: استغفر الله. ثم وضع يده على صدره فسكن قلبه. فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إليّ منه".
ومرّ فضالة عائدًا إلى بيته بامرأة كان يميل إليها ويتحدث معها، فقالت له: هلمّ إلى الحديث، فانبعث يقول: قالت هلم إلى الحديث فقلت: لا يأبى عليّ الله والإسلام
لو ما رأيت محمدًا وقبيله بالفتح يوم تكسر الأصنام
لرأيت دين الله أضحى بينًا والشرك يغشى وجه الإظلام

دروس من فتح مكة
من أعظم بشائر القرآن الكريم

الأستاذ/ حسن ضياء الدين عتر
انهمك الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الأبطال الميامين بعد الهجرة في ردع الأعداء الكائدين هنا وهناك في أرجاء الجزيرة العربية، لا يُخمدون نارًا إلا أوقد العدو للحرب نارًا أخرى.
في هذه الغمرة جاءتهم بشارة عظيمة فريدة فوق الذي في حسبانهم يومئذ، إن الله سيمنحكم نصرًا عظيمًا وعزًا وطيدًا، ويفتح لكم قلعة الشرك الحصينة؛ أم القرى، مكة المكرمة؛ ويتهاوى الشرك كله.. ويدخل الناس معكم في دين الله أفواجًا.. نزلت هذه البشارة تخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إمامهم وقائدهم: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)
ذهب العلامة عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - رحمه الله- مذهب جمهور المفسرين، إلى أن سورة النصر نزلت قبل فتح مكة إذْ أخبر الله بفتحها قبل وقوعه. وجاء مستقبل الزمان بتحقق الفتح، كما أنبأ الله تعالى من قبل وأخبر. فسورة النصر علم من أعلام نبوة سيد المرسلين وإلهية رسالته.
لقد استدل الحافظ ابن رجب على نزول سورة النصر قبل الفتح بدلائل أهمها:
1) ظاهر النص القرآني، فقد دلت اللغة العربية على أن "إذا" ظرف لما يستقبل من الزمان. وعوّلَ على هذا بعض أئمة اللغة كالزمخشري في كشافه.
2) روى النسائي من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت: ]إذا جاء نصر الله والفتح[ إلى آخر السورة، قال ابن عباس: نُعْيَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنُزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهادًا في أمر الآخرة".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "جاء الفتح، وجاء نصر الله، وجاء أهل اليمن" فقال رجل: يا رسول الله ، وما أهل اليمن"، قال: (قوم رقيقة قلوبهم، لينة قلوبهم، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، والفقه يمان".
أقول: إن المقصود بـ "أهل اليمن" في الحديث هم الأشعريون، فإنهم طليعة وفود اليمن، قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع للهجرة عند فتح خيبر، ويدلك ذلك على نزول سورة النصر قبل فتح مكة. وهو قول الجمهور، وإليه ذهب الإمام ابن رجب رحمة الله عليه.
تكشف لك الدراسة العلمية أن هذه السورة الجليلة علم ساطع من أعلام نبوة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وبرهان باهر على إلهية رسالته، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى فيها عن سقوط معقل الشرك في المستقبل القريب، لتقرَّ عين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتطهير مكة من دنس الشرك والوثنية، قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى، تباركت أسماؤه وتعالت صفاته.
قال الإمام الجليل عبد الرحمن بن رجب الحنبلي في قوله تعالى: ]إذا جاء نصر الله والفتح[: "أما (نصر الله): فهو معونته على الأعداء، حتى غَلَبَ صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، واستولى عليهم من قريش وهوازن وغيرهم". وقال الإمام الألوسي في قوله تعالى: (إذا جاء): "المراد بالمجيء الحصول".
وفي قوله تعالى (نصر الله): "أي إعانته تعالى وإظهاره إياك (يا رسول الله) على عدوك".
وقال الإمام أبو السعود العمادي: "والتعبير عن حصول النصر والفتح بالمجيء، للإيذان بأنهما متوجهان نحوه عليه السلام، وأنهما على جناح الوصول إليه عن قريب".
وذكر القاضي البيضاوي نحو ذلك وزاد عليه قوله: "وقد قرب النصر من وقته فكنْ مترقبًا لوروده، مستعدًا لشكره".
ذهب الإمام ابن رجب الحنبلي مذهب جمهور المفسرين وفيهم ابن عباس وغيره إلى أن المراد بالفتح: "هو فتح مكة بخصوصها". ثم قال: "قال ابن عباس وغيره، لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها ظهور النبي صلى الله عليه وسلم على مكة". وفي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة قال: "وكانت العرب تلَوِّم [أي تنتظر] بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامه، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.." الحديث.
وقد استدل العلامة ابن كثير بفتح مكة على نبوة سيد المرسلين وساق استدلاله تمهيدًا لحديث عمرو بن سلمة الذي أوردناه آنفًا.
وعن الحسن قال: "لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة؛ قالت الأعراب: أما إذْ ظفر بأهل مكة؛ وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل؛ فليس لكم به يدان. فدخلوا في دين الله أفواجا".
الحق أن فتح مكة علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى حمى بيته من أهل الضلالة والبغي، وهم أصحاب الفيل. بينما فتح أبوابها وذلل وعرها، وأخضع أعناق جبابرتها وصناديدها لسيد المرسلين حبيبه محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الإمام عماد الدين إسماعيل بن كثير: "والمراد بالفتح هنا فتح مكة قولاً واحدًا" وتدل عليه أحاديث كثيرة، وإذا أطلق لفظ "الفتح" فالمراد به فتح مكة المكرمة، وقد ورد هذا في القرآن العظيم. قال الله تعالى:
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير) [الحديد]
سيد المرسلين يوم الفتح الأعظم
كشف الله تعالى ما يكون بعد الفتح من شأن سيد المرسلين، وهو شأن إخوانه المرسلين قبله. فإنك لا تجد في تاريخ أحد منهم، قبل النصر ولا بعده، بعض ما تجده في زعماء الضلالة من طغيان وتكبر وتجبر وتطاول وظلم وإذلال للناس.. فهذه سورة النصر تُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح مكة وتوجه قلبه إلى جانب عظيم من جوانب الصلة بالله تبارك وتعالى [فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا].
وفتح الله على رسوله الأمين وأصحابه الميامين أعتى قلاع الشرك في الجزيرة العربية فدخل مكة ظافرًا؛ بجيش عظيم منيع من أصحابه، لم يجتمع من أبناء الجزيرة العربية نظيره قط، وذلك في أواخر شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة من الهجرة، دخلها خاشعًا لله متواضعًا، ذاكرًا عابدًا، يقرأ سورة الفتح على ناقته. روى البخاري في صحيحه عن معاوية بن قُرةَّ قال: "سمعت عبد الله بن مُغفَّل يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، يُرجعُ. وقال [أي معاوية بن قُرة]: لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت كما رجع".
"الترجيع": ترديد القارئ الحرف في الحلق. يفيدك هذا التعبير أن الرسول صلى الله عليه سلم في هذا النصر العظيم كان يمعن في تلاوة ألفاظ هذه السورة وفي التفكير بمعانيها اعترافًا بفضل الله عليه. أجل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة على مشهد من جمع عظيم، وقد كاد له الذين ناصبوا دعوته العداء حتى أخرجوه من بلده، لكنه لم يدخلها مزهوًا مختالاً. إنما دخلها خاضعًا متواضعًا لله خير الناصرين، وذلك في شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة من الهجرة.
روى الإمام الحاكم وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: "لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعًا".
وفي رواية البيهقي عن أنس قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعًا".
وأفادت رواية الواقدي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توسط الناس على هذه الحال.. "تواضعًا لله تعالى حين رأى ما رأى من فتح الله وكثرة المسلمين، ثم قال صلى الله عليه وسلم : اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة".
لقد رتب الله على الفتح والنصر أمرًا جليلاً عظيمًا: [فسبح بحمد ربك واستغفره. ]فإن الصلة بالحق تباركت أسماؤه وتعالت صفاته لا يجوز أن تكون قاصرة على أيام الشدة، إذ يفتقر العبد إلى مولاه، فيناديه من أعماقه رباه! رباه! وهو في أمرِّ حالات الافتقار وأشدِّ حالات الظلام، ولكن الصلة الواجبة بين العبد وربه صلة دائمة لا تنقضي ولا تنقطع مدى الحياة، مهما أمد الله له في النعم، وأزجى له من العز والنصر والسؤدد.
كانت العرب تنتظر نتيجة الصراع بين المصطفى "صلى الله عليه وسلم" وبين قلعة الشرك والوثنية. دخل الرسول الكريم مكة ظافرًا متنصرًا.. ودانت له الرقاب.. لكنه دخلها متذللاً لله رب العالمين. فليس في النصر إغراء يحوله عن طريقته الفضلى..!! ولا ما يستدعي أن يقترف شيئًا من جرائم الجبارين، زعماء الغرور والطغيان، من سفك دماء العزل من السلاح، وهتك أعراض الحرائر المسالمات، وسلب الأموال وتخريب الديار وانتهاك حرمات الله، وإهانة الشرفاء والفضلاء، وإذلال الناس وكبت حرياتهم، وملء السجون بجموع النبغاء والكرماء والفضليات الشريفات!!.
إن للجبابرة الطغاة شاكلة شهيرة ملأت التاريخ الغابر والمعاصر نكبات ومآسي وفواجع.. ولقد أماطت الأحداث اللثام عن طغاة استلبوا زعامات في الماضي والحاضر فعاثوا في أقوامهم فسادا..!! وعن طغاة بغوا في الأرض، ظلمًا وعدوانًا، تجبرا وغرورا، فاقترفوا من فظائع الجرائم ما تذهل له العقول..!! ولا تغيب عن بالك مجازر اليهود وأذنابهم في فلسطين ولبنان، ولا مجازر الهندوس والوثنيين في مسلمي الهند، ومثل ذلك في أفريقيا. وغير ذلك كثير في عصرنا. طغيان وسفك دماء.. وانتهاك أعراض.. وسلب أموال.. وتخريب ديار.. ذاكم صنيع الجبارين، كما أخبر الله عنهم، قال تعالى: } قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [سورة النمل].
أما نحن معشر أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فلنا شاكلة أخرى وطريقة مثلى، رسمها الحق تبارك وتعالى، وها أنت تشهدها في دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في أعظم نصر، وقد طأطأ رأسه.. خاشعًا مخبتًا متذللاً لله واهب النصر رب العالمين ]وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم[ [سورة الأنفال:10] إن ذلك التواضع الجم والأدب الكامل والتذلل والاستكانة بين يدي الحق جبار السموات والأرض، لنا طريقة التعامل مع عباد الله، كل حسب حالة (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ) [سورة المائدة: 54].
لقد آذت قريش رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أذى مريرًا، فصبر عليهم ثلاث عشرة سنة بعد البعثة ثم هاجر مضطرًا من مكة إلى المدينة.
واستمرت المصاولة بينه وبينهم بعد الهجرة ثماني سنين حتى أظفره الله عليهم إذْ داهمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في عقر دارهم. وسبق إليه أبو سفيان، الذي جلب الأحزاب لحربه وتسبب وزوجته بواسطة وحشي في قتل عمه حمزة والتمثيل به، فلاطفه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعاه للإسلام.. فقال: ويحك يا أبا سفيان.. ألم يأنِ لك أن تعلم وتشهد أن لا إله إلا الله!؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأوصلك وأكرمك!! ثم جعل الرسول له مكرمة خاصة لدى اقتحام المسلمين مكة، فجعل الأمان لمن دخل داره فقال: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن). واجتمع الذين حاربوا الله ورسوله يستمعون إلى الحكم فيهم، وهم يظنون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى عن استئصال شأفتهم وإبادة خضرائهم، فقال: ما تقولون أني فاعل بكم!!) فقالوا: أخٌ كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف )قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة يوسف: 92].
وضح لك من ذلك كله تفوق رسول الله صلى الله عليه سلم على الناس أجمعين بسعة الصدر، ولين العريكة، وكرم العشرة، وكظم الغيظ والعفو عن الناس بل هو صلى الله عليه وسلم يفوقهم في جميع محاسن الأخلاق.. حتى رحُب صدره لأجلاف الجاهلية؛ وهم من أغلظ البشر طبعًا وأقساهم معاملة. وإن عظيم عفوه هذا يكشف عن تأهيل الله سيدنا محمدًا لمقام الرسالة العظمى، وهو من أعلام نبوته الساطعة الباهرة صلى الله عليه سلم
 

 

 

 

المصدر:       http://www.islam-online.net