بسم الله الرحمن الرحيم

" دروس من غزوة بدر "


لقد كانت غزوة بدر التي ابتدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه ومدده فرقانًا بين الحق والباطل -كما يقول المفسرون إجمالاً-، وفرقانًا بمعنى أشمل وأوسع وأدق وأعمق كثيرًا، كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً، ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء، الحق الذي يتمثل في تفرد الله -سبحانه- بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد، ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك.. والباطل الزائف الطارئ كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشى على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء!

كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر كذلك. فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص والأهواء وللقيم والأوضاع وللشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات - وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم من دونه، ولا مشرع إلا إياه. فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس لا تخضع إلا لحاكميته وشرعه.

كانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد الصبر والمصابرة والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع.. والإسلام بوصفه تصورًا جديدًا للحياة، ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة بوصفه إعلانًا عامًا لتحرير الإنسان في الأرض، وبتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته وحاكميته. الإسلام بوصفه هذا لم يكن له بد من القوة والحركة والمبادأة والاندفاع ، لأنه لم يكن يملك أن يقف كامناً منتظراً على طول الأمد. لم يكن يستطيع أن يظل عقيدة مجردة في نفوس أصحابه يتمثل في شعائر تعبدية لله، وفي أخلاق سلوكية فيما بينهم، ولم يكن له بُدٌّ في أن يندفع إلى تحقيق التصور الجديد والمنهج الجديد والدولة الجديدة والمجتمع الجديد في واقع الحياة وأن يزيل من طريقها العوائق المادية التي تَكبتها، وتحول بينها وبين التطبيق الواقعي في حياة المسلمين أولاً، ثم في حياة البشرية كلها أخيراً .. وهى لهذا التطبيق الواقعي جاءت من عند الله.

وكانت فرقانًا بين تصورين لعوامل النصر وعوامل الهزيمة؛ فجَرَتْ وكل عوامل النصر الظاهرية في صف المشركين، وكل عوامل الهزيمة الظاهرية في صف العصبة المؤمنة حتى لقد قال: المنافقون والذين في قلوبهم مرض: (غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ)، وقد أراد الله أن تجري المعركة على هذا النحو، وهى المعركة الأولى بين الكثرة المشركة والقلة المؤمنة، لتكون فرقانًا بين تصورين وتقديرين لأسباب النصر وأسباب الهزيمة، ولتنتصر العقيدة القوية على الكثرة العددية وعلى الزاد والعتاد، فيتبين للناس أن النصر للعقيدة الصالحة القوية، لا لمجرد السلاح والعتاد، وأن أصحاب العقيدة الحقة عليهم أن يجاهدوا ويخوضوا غمار المعركة مع الباطل غير منتظرين، حتى تتساوى القوى المادية الظاهرية؛ لأنهم يملكون قوة أخرى ترجح الكفة، وأن هذا ليس كلامًا يقال، إنما هو واقع متحقق للعيان.
النصر الحقيقي من الله وكل ما دونه ستار لقدر الله :
1 - الاستغاثة بالله ونزول الملائكة:
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)
روى أحمد ومسلم، وأبو داود والترمذى وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن عباس -رضى الله عنهما- قال: حدثني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر -رضي الله عنه- فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون.
وأما البخاري فروي عن ابن عباس قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: "اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد" فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
2 - الملائكة للبشرى والطمأنينة!
(وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) يقول ابن جرير الطبري: "يقول -تعالى ذكره-: لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضًا، وتتابعها بالمسير إليكم أيها المؤمنون مددًا لكم إلا بشرى لكم؛ أي بشارة لكم تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ)، يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم وتوقن بنصر الله لكم، وما النصر إلا من عند الله. يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا أن ينصركم الله عليهم لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه". فالملائكة إذن لا تحقق النصر، وقوة بأس المؤمنين لا تحقق النصر؛ بل المؤمنون والملائكة ستار لقدَر الله وهم جنود الله تعالى، ينصر بهم وبغيرهم؛ لأن النصر بيده سبحانه.
وهذا المعنى الذي يشهده المؤمنون اليوم في بدر له مذاق خاص، وله حلاوة خاصة، فليس معنى مجرداً في الذهن، أو أملاً معقوداً في الأفق بل هو واقع حي لا تزال آثاره الضخمة في حسهم وشعورهم، ولا بد أن يتم التجرد الكامل من عالم الأسباب، وإعادة الأمر كله لله.
3 - النعاس من جنود الله :
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ) عن علي -رضى الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا متيقظ إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلى ويبكى حتى أصبح، ذكره البيهقي والماوردي وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني : أنه أمَّنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يُقال: "الأمن منيم والخوف مسهر"، وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين.
4 - الماء من جنود الله وله وظائف أربع:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ) ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجّاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك. فقال: بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء؟ فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشر من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين؛ حتى ثبتت فيه أقدام المسلمين وقت القتال.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "نزل النبي صلى الله عليه وسلم يعني حين صار إلى بدر والمسلمون بينهم وبين الماء رملة وعصة فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تُصلُّون مجنبين؟
فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدَّواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة.
5 - الملائكة بحاجة إلى معية الله سبحانه:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ).
فالملائكة بدون عون الله تعالى عاجزون عن تحقيق أي نصر حتى وهم يثبتون المؤمنين ويقاتلون معهم، لا بد لهم من معية الله سبحانه ليلقي الرعب في قلوب الكافرين.
6 - الله تعالى يدير المعركة:
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ لنار)

قوله: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ)
يقول: قووا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقد قيل وهم من المشركين وقد قيل إن تثبيت الملائكة المؤمنين كان حضورهم حربهم معهم، وقيل كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم، وقيل كان ذلك بأن المَلَك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ) يقول تعالى: سأرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم وأملؤها فَرقًا حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق.
7 - المؤمنون من جند الله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
وبعد هذه المعية وهذا العون. لا مجال لفرار المؤمنين من الزحف فقد أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مِثْلي المؤمنين فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفروا أمامهم.
وقال الجمهور من العلماء أن حكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة وليس في الآية نسخ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات … وفيه - والتولي يوم الزحف".
وأما يوم أحد فإنما فر الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا، وأما يوم حنين، فكذلك من فر إنما انكشف من الكثرة.
8 - الحصى من جند الله:
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)
روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك، فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، فقيل: المعنى لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم، وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدكم بهم، (تفسير القرطبي ج4،7 ص384).

(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى)
ولما التحم القتال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعًا يديه يسأل الله النصر وما وعده، وأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأخذ من الحصى كفاً فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه، اللهم ارعب قلوبهم وزلزل أقدامهم" فانهزم أعداء الله لا يلوون على شيء وألقوا دروعهم، والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه ما يدري أين توجه والملائكة يقتلونهم.
9 - استفتاح الكافرين من جند الله:
(إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قال: الأموي حدثنا أسباط بن محمد القرشي عن عطية عن مطرف في قوله (إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ) قال: قال أبو جهل: اللهم أعن أعز الفئتين وأكرم القبلتين وأكثر الفريقين فنزلت الآية.
كأنما هو يدعو على نفسه وفئته فاستجاب الله له.
10 - كثرة الكافرين وفئتهم من جند الله:
لأن الله تعالى ناصر حزبه ومؤيد جنده (وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ولن يدعهم للكثرة المشركة تتحكم بهم. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا


أسباب المعركة
دولة الحق
وقامت دولة الحق بعدما نظم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجتمع المدينة، فكتب الصحيفة التي ربطت بين عناصر مجتمع المدينة، من أنصار ومهاجرين وأهل كتاب؛ بني قينقاع والنضير وقريظة، واجتمع المسلمون للصلاة في مواقيتها لا يخافون إيذاء كما كان الحال في مكة، وأصبح المسجد مركز التجمع المدني، فيه يتلى الوحي المنزل، وتقام الجماعات يدعى إليه بنداء هو من أمر الله يجمع معالم الإسلام في كلماته، وفيه تعقد الألوية، وتستقبل الوفود وتقضى الأقضية ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأس ذلك يسترفد الوحي وبه يسترشد.
ضغائن قريش
وملك الغيظ قريشًا ولبسهم الحرج، بعد أن أفلتت منهم الفرصة التي خططوا لها: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، وما كان الله ليذرهم وما يخططون، بل لقد اختار الله توقيتهم وتخطيطهم، ليحبط به وفيه سعيهم وتدبيرهم، ليخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دار أمن ومنعة، فاحتاروا كيف يتربصون بهذا المجتمع الذي اخترق سلطانهم على العرب، وأصبح مناوئًا لكلمتهم في قبائل الجزيرة، ذلك السلطان الذي دانت لهم به العرب منذ عام الفيل، الذي أهلك الله فيه جيش الحبشة والفيل، بما أرسل عليهم من طير (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ)؛ إذ ظن العرب أن الله منع بيته المحرم، إكرامًا لقريش، وما فعله الله -سبحانه- إلا إكرامًا لنبيه الذي أوشك نور ميلاده أن يشرق، وليصطنعه الله على عينه ليطهِّر البيت من الأوثان والأنداد لعبادة الله وحده.
إذن القتال
ولم يكن بدّ أن تقع وقائع بين الكفر المعاند المكابر، وبين أهل الإيمان (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)، فلم يمض عام أو بعض عام حتى كانت هناك سرايا أخرجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما أذن للمؤمنين بأن يواجهوا القتال بالقتال: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ* أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
لقد ظلم المؤمنون؛ إذ خرجوا من ديارهم بأعز ما يملك المرء وما يحمل؛ قلب مؤمن بالله ثابت على الحق، يطلب النجاة بدينه، ويترك المال والنشب، بل ترك كثير منهم الأهل والولد، ولحقوا بدار منعة اعتزازًا بالله وإيمانًا به، فضّلوه على لعاعة الدنيا رغبة في وجهه -سبحانه-، فعوّضهم بنصره وما أفاء عليهم.
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أُخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة؛ قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون!! ليهلُكُن.. قال ابن عباس: فأنزل الله -عز وجل-: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) قال أبو بكر -رضي الله عنه-: فعرفت أنه سيكون قتال، وزاد أحمد: وهي أول آية نزلت في القتال.
تدبير الله
وواجهت بعض السرايا التي أخرجها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التحامًا بالسلاح، وعاد غيرها دون أن يلقوا قتالاً، حتى كانت وقعة بدر: التي قدَّر المؤمنون الذي خرجوا إليها : أن يعودوا بعِير قريش، عوضًا عن أموالهم بمكة التي استحلتها قريش، وقدَّر الله تعالى أن تكون لقاء بين قلة مؤمنة -محدودة العتاد والعدة- وإيمانها يملأ الصدور عزة بالله، وكفرًا بالشيطان وحزبه، وبين الكثرة التي خرجت من مكة بطرًا ورئاء الناس، ويصدون عن سبيل الله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) نعم: لقاء يحق الله به الحق ويبطل الباطل، ليذهب نصر القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة المزهوة بخيلائها؛ حيث خرجت بالقيان تضرب دفوفها ليسمع العرب، ويسقوا الخمر نشوة وكبرًا واستعلاء، فيذهب نصر القلة المؤمنة على الكثرة المستكبرة. في أنحاء الجزيرة يرجُّ آفاقها؛ إيذانا بزوال دولة الكفر والاستعلاء على الله الواحد الأحد، بالأنداد والأوثان، التي لم تغن عنهم شيئًا.
حروب وحروب
إن الحروب كانت تقوم -وما تزال حتى الآن إلا من عصم الله- دائمًا بين طائفتين؛ طائفة مستعلية مستكبرة، تزهوا بالعتاد والعدة والعدد؛ ومستضعفة لا تملك ما تملك الأولى، وعدوان المستعلين هدفه إذلال المستضعفين ومحو عزتهم بأنفسهم، يتخذونهم تبعًا وأداة يصطنعونها لحاجاتهم وحرثهم، ونماء أموالهم وملكهم، بطرًا واستكبارًا في الأرض.
وهذا ما كانت تفعله فارس والروم في آسيا وإفريقيا وأطراف من أوروبا، وهو نفس ما كانت تفعله قبائل العرب في الجاهلية بعضها مع بعض، فيعود المنتصر بالسبي والسلب، ويعود المهزوم بذلّ الحياة وعار الهزيمة والأمهات والبنات سبايا، يا له من ذل.
وربما قامت الحرب بين طائفتين مستعليتين كما قامت بين فارس والروم قديمًا وبين دول الغرب حديثًا، وهذا ما جاء الإسلام لتغييره، بإخراج العباد من استعباد العباد إلى عبادة رب العباد والاعتزاز بعزته: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)، ولهذا كان تدبير الله تمهيدًا لما حدث في بدر أن يذلّ كفر الكافرين وكبرياءهم الجاهلي بعد إنكارهم للحق الأبلج بيد من كانوا في مكة بالأمس مستضعفين.
وعد الله
وبهذا بشّر الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- إذ وعده وصحبه إحدى الطائفتين؛ العير التي جاءت من الشام تريد مكة، أو المناجزة والقتال ثم النصر.
1 - وليتم الله تدبيره مكّن أبا سفيان -الذي كان على رأس القافلة- من النجاة بالعير، بعد أن أرسل إلى مكة محذرًا قريشًا يستدعيها لتدافع عن أموالها، فلما اطمأن إلى سلامة العير استدرك واسترجعهم فقد سلم المال والمتاع والإبل.

2 - وليتم الله تدبيره أخرج أبا جهل -أبو الحكم عمرو بن هشام- في ألف أو يزيد، في عدة كاملة، وظهر حاضر من خيل وإبل، وسلاح وافر ودروع، يختال كبرًا وكفرًا، وأبى أن يستجيب لاسترجاع أبى سفيان بن حرب، يقول: لا نرجع حتى تضرب علينا القيان ونسقى الخمر ونطعم الطعام وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا بعدها.

3 - وليتم الله تدبيره قدَّر أن يكون اللقاء حيث لا يمكن أن يتم في مكان أو ميعاد إلا بإذنه هو: ( إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)


الاستعداد والتحرك
وشــاورهم..
ولما تبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إفلات العير، وأتاه خبر خروج قريش بسلاحها وقيانها وخمرها، وجيش يفوق أصحابه عددًا وعدة؛ لم يبادره بما لَه من مقام النبوة يأمر وينهي يبغي المواجهة، بل جمع من حوله من أنصار ومهاجرين: يشاورهم -إعمالاً لأمر الله-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
وكان أصحابه عند ظنه بهم: أما المهاجرون فقد قال أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما-: ما أقر عيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال المقداد بن الأسود: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن نقول: اذهب أنت وركب فقاتلا إنا معكما مقاتلون.. فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خيرًا ودعا له بخير.
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يريد أن يستوثق من رأي الأنصار؛ فهم الذين خرج من مكة بعد عهدهم له أن يمنعوه مما يمنعون منه أموالهم وأولادهم، فقال-صلى الله عليه وسلم-: "أشيروا عليَّ أيها الناس"
-فقد روى ابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بالمدينة: "إني قد أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة -أي عائدة من الشام-، فهل لكم أن نخرج إليها لعل الله يغنمناها"؟ قلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يومًا أو يومين، قال: "ما ترون في القوم؟ فإنهم قد أخبروا بخروجكم"؟ فقلنا: لا والله، ما لنا طاقة بقتال العدو، ولكن أردنا العير، ثم قال: "ما ترون في قتال القوم"؟ فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد: وذكر ما رويناه من قوله، ثم استشارهم ثالثًا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتخوَّف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدو، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم؛ فلما قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: "أجل". فقال له: لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض بنا يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
فسرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقول سعد، ونشَّطه ذلك، ثم قال: "سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".
حول مياه بدر
وتقدم الفريقان -على غير ميعاد- حتى أدركوا جميعًا ماء بدر، وكانت بدر سوقًا للعرب مسموعًا خبرها ومكانها، كل فريق على عدوة وطرف.
واختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزلاً، ودعا القوم إلى النزول، وهنا هبّ صحابي ينزع من معين الحب والإيمان، وينطق من بلاغة الأدب والإقرار لمقام النبوة، هو الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح، ويقول: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة".
فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ونغور ما وراءه من القلب -الآبار-، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه فنشرب ولا يشربون، فاستحسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الرأي وفعله.
مطر من السماء
وكان مما دبّر الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- حين قدم بدرًا أن أنزل مطرًا بقدر، أما من جهة قريش فكان المطر عظيمًا، عطلهم عن السبق إلى مياه بدر، وأما ما كان مما يلي المسلمين فبالقدر الذي يثبت رمال الوادي، فلم يصب المسلمين منه إلا ما لبَّد لهم دهس الوادي وأعانهم على السير، وهو ما عناه رب العزة في قوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).
استطلاع
ورغم يقين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من نصر الله الذي وعده، فإنه أخذ بأسباب حكمة المقاتل الذي يتأهب، وخرج من المعسكر مع أبي بكر -كما روى ابن هشام- يستطلع خبر القوم، حتى وقف على شيخ من العرب؛ فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم؟! فقال: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما! فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أخبرتنا أخبرناك" قال: أوذاك بذاك؟ قال: "نعم"، قال: فإنه بلغني أن محمدًا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -المكان الذي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه- وبلغني أن قريشًا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا -للمكان الذي به قريش-، فلما فرغ من خبره قال: ممن أنتما؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نحن من ماء" ثم انصرف عنه، قال: يقول الشيخ: من ماء؟ أمن ماء العراق؟ ثم انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه

التوكل والإيمان والمدد
يناشد ربه
وبات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلته راكعًا ساجدًا يناشد ربه النصر؛ فقد أخرج البيهقي والماوردي بسندهما عن علي -رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وجاء خبر الصباح في صحيح مسلم قال:.. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه، ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أظهرَنا الله وأعزَّنا على عدوِّنا كان ذلك ما أحببْنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبًا منهم، ولو ظنوا أنا نلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، ويناصحونك، ويجاهدون معك، فأثنى رسول الله عليه خيرًا، ودعا له بخير، ومشى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على موضع الوقعة، فعرض على أصحابه مصارع رؤوس الكفر من قريش مصرعًا مصرعًا، يقول: هذا مصرع فلان إن شاء الله، هذا مصرع فلان إن شاء الله.
قال عمر: فوالذي بعثه بالحق، ما عدا واحد منهم مضجعه الذي حدده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السقيفة، لا يكف عن مناشدته ربه، فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- القبلة وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصبة من أهل الإسلام فلا تعبد بعد في الأرض أبدًا"، فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ). وفي رواية ابن إسحق وغيره: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبشر يا أبا بكر: أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع -غبار المعارك-، ثم خرج من العريش وهو يتلو قول الله تعالى: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).
مدد السماء الثالثة
واختلطت الصفوف، وتلاقت السيوف بالسيوف، وحسم أمر الله للملائكة اللقاء: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ)، وفي الحديث عن ابن عباس: بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه، وصوت فارس يقول: أقدم حيزوم، فنظر إلى المشرك مستلقيًا، فنظر إليه: فإذا هو قد حطم أنفه، وشق وجهه لضربة السوط، فاخضرّ ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "صدقت، ذلك من مدد السماء الثالثة".
من قواعد القتال
وكان مما أنزل الله تعالى من أوليات قواعد القتال قوله: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، فليس للمسلم إلا الإقدام -والله ردؤه- إلا أن يكون مناورًا ينحرف من مكان إلى مكان -يبدل مواقع القتال- أو طالبًا التحيز لطائفة من المقاتلين يستكثر بهم.
ولكن الله قتلهم…
وليعلم المؤمنون أنهم جند الله وأدواته، وأن أيديهم ليست الفاعلة وأن الفعل لله؛ به يبيد أهل الشرك، فهو الذي وفق وهو الذي أعان فأهلك؛ فأنزل: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ) وهو الذي أظفر المؤمنين، ومكنهم من رقاب أهل الشرك وظهورهم، فما كان لأحد أن يفخر بقتل من قتل وإصابة من أصاب، فالله هو الذي استدرج القوم، ومكّن المؤمنين من نواصيهم..
وما رميت إذ رميت
فقد روى ابن كثير قال: قال ابن عباس: رفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يديه يوم بدر، فقال: "يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا" فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم.
وذلك ما جاء في قول محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبضة من تراب، فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه"، فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقتلونهم ويأسرونهم، فكانت هزيمتهم في رمية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الله تعالى شرّف رسوله فيما رمى، فجعل يده ترمي عن الله، فأنزل عليه: )وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، ثم عقّب الله على فضله فيما كان يخبر ويقرر حقًا فيما كان ويكون حتى يتم الله دينه: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ)، فما كادوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحبه بعدها كيدًا إلا وأوهنه الله تعالى إلى أن لقي ربه -صلى الله عليه وسلم-.
ثم استمر ذلك الوهن للكافرين أمام جند الفتح من بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أن عمّ الإسلام الآفاق.
إيمان وبطر وكبر
وتتحدث كتب السنن والمغازي والسير، فتروي تفاصيل كثيرة عما دار في بدر عندما احتدم القتال: فهذا عمير بن الحمام يلوك تمرات، وما أن يسمع بشارة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لمن يقاتل مقبلاً غير مدبر حتى يقتل فله الجنة، فيلقى بالتمرات من يده وفمه، ويتقدم فيقاتل فيلقى الله على عهده.
وهذا عبد الرحمن بن عوف يجد نفسه في الصف بين شابين؛ كل يسأله عن أبي جهل عدو الله، ويختال أبو جهل بين الصفوف؛ فيقول ابن عوف: ذاكم صاحبكم! فيتبادله "المعاذان"؛ معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، يتبادلانه بضربتين حتى يثبتاه صريعًا يعالج آخر أنفاسه.
ويدركه عبد الله بن مسعود، فيتقدم ويرقى صدره ليجهز عليه، فيغلبه كبرياء الكفر وهو وشيك الهلاك، فيقول: لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رويعي الغنم، ويحتزّ عبد الله رأسه ويذهب فيلقيه بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتتابع الرماح والسيوف فعلها في القوم، حتى أذل الله أعداءه، فوقعوا بين قتيل وأسير، ويفر من فر هربًا من القيان بدفوفهم حتى يدخلوا مكة خزايا مدحورين



الفضل العظيم
الخبر في مكة
يقول ابن إسحق: وكان أول من قدم مكة بمصاب القوم من قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعي؛ فقالوا: ما وراءك؟ قال: قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام -أبو جهل- وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام، فلما جعل يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا -يعني أنه مجنون لا يدري- فاسألوه عني، قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
أبو لهب يموت كمدًا
وفي حديث أبي رافع مولى العباس بن عبد المطلب لما جاء الخبر عن مصاب أصحاب بدر كبت الله أبا لهب وأخزاه، فقام يجرّ رجليه بشرٍّ حتى جلس، فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. قال: فقال أبو لهب: هلم إليَّ فعندك لعمري الخبر. قال: فجلس إليه والناس قيام، فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟
قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضًا -يلبسون البياض- على خيل بلق بين السماء والأرض، لا يقوم لها شيء، قال أبو رافع -وكان الإسلام دخلنا وسرنا ذلك-: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضربني في وجهي ضربة شديدة، فقامت أم الفضل- زوج العباس- إلى عمود، فضربت به في رأس أبي لهب فشجته، وقالت: أستضعفته أن غاب سيده؟! فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة -وهي قرحة تتشاءم منها العرب- فتباعد عنه بنوه حتى قتله الله. الحديث.
فضل الله
وهكذا قضى الله أمره وأنفذ تدبيره، وأوقع أول واقعة في الإسلام، فذكر أحبابه المنتصرين بفضله: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وأسكنكم بين قوم يحبونكم وتحبونهم (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وبيّن لحبيبه بعضًا من أسرار تدبيره (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَـكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)، وكشف الله تعالى سعي الشيطان في جيش الكفر: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب)
إعداد وعدة .. وحساب
ِ ومنذ أن وقعت الواقعة أوجب الله تعالى على المؤمنين الأهبة والإعداد تحسبًا للقاءات قد تفاجئهم، ليس من المشركين وحدهم، بل من كل من تسول له قوته أن يحارب الإسلام وأهله أو يمكر بهم فأوحى إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ)، والعدة تحتاج إلى نفقة وتنبيه خاص بفضلها (وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ).
وكان للمؤمن المقاتل ذي الإيمان السوي الراسخ حساب خاص عند الله، ليس كحساب البشر إذا احتدم القتال: مقاتل بمقاتل!! ولكن أبعد من ذلك حيث أخبر نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ)، لا يفقهون تدافعكم للشهادة وبذل المهج طلبًا للجنة، وهم إنما يقاتلون ليسمع بهم الناس استعلاء وكبرًا وخيلاء، ثم خفف الله عن عباده وقد علم ما بهم: (الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ)، ولقد صدق المؤمنون وعد الله وصدقهم الله وعده، فلقد كانت جيوش الفتح تلقى أضعافها عددًا وعدة في قتال الفرس والروم في فتوح العراق والشام ومصر وإفريقية، وحتى عندما عبروا مضيق جبل طارق لقتال القوط الغربيين، فكان النصر معهم ما صبروا: (وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
مكانة البدريين
جاء فيما روى البخاري بسنده: "… جاء جبريل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما تعُدُّون أهل بدر فيكم؟! قال: "من أفضل المسلمين" أو كلمة نحوها، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة".
وبعد
فإن بدرًا وما لابسها من أحداث، وما علّق الله تعالى بها من أحكام، وما وجّه من تنبيهات لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين تحتاج وحدها سفرًا يتدارس آثارها وأخبارها فبها بدأت المواجهة الصادقة: أحقت الحق وأبطلت الباطل، وفيها علَّم الله رسولَه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين علومَ الحرب والسلم والإعداد والحذر والطاعة والصبر عند اللقاء، والإثخان في الأعداء حتى يستقيم أمر الله الذي أراد وبيّن

 

المصدر:             http://www.islam-online.net