أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فكلمة التقوى جامعة لكلِّ خير،
مانعةٌ من كل سوء. كلمةٌ أوصى الله بها الخلائق أجمعين:
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا
ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـٰكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ
ٱللَّهَ [النساء:131]. كلمةٌ أوصى الله بها خيرَ
خلقه وأتقاهم له محمدَ بن عبد الله:
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ
[الأحزاب:1].
كلمةُ التقوى هي صفة أولياء الله،
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ
يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]. هي المنجية من عذاب
الله، وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ
وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً
ثُمَّ نُنَجّى ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّـٰلِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً
[مريم:71، 72]. كلمةٌ إذا استقرَّت في القلب دعت إلى كلِّ خير، وقادت العبدَ لكل
خير، وحذّرته من كل سوء. كلمةٌ تصحب العبد في كلِّ أحواله، في الحديث:
((اتَّق الله حيثما كنت))[1].
أمةَ الإسلام، فلنتَّق الله في أوامره التي أمرنا بها امتثالاً وتطبيقاً،
وَمَا ءاتَـٰكُمُ
ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ
[الحشر:7]، ولنتق الله فيما نهانا عنه،
فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[النور:63].
اتقوا الله في أخباره، فصدِّقوها وأيقنوا بها،
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً
[النساء:122].
اتقوا الله في وعده، فارجوا ما عند الله، وثِقوا بوعد الله، وأن أعمالَكم الصالحة
لن يُبخس منها شيء، فَلاَ
يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً [طه:112]، يقول الله
تعالى: فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ
رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ
بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195].
اتقوا الله في وعيده، فاحذروا بأسه ونقمته،
إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ
[البروج:12]، وَكَذٰلِكَ
أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ
شَدِيدٌ [هود:102]،
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6].
اتقوا الله في صومكم، واتقوا الله في فطركم، واتقوا الله في سرِّكم وعلانيتكم، فمنه
المبدأ وإليه المصير.
أمةَ الإسلام، أفطر المسلمون اليوم ففرحوا بفطرهم، وحُقّ لهم ذلك حيث فرحوا بإكمال
الصيام امتثالاً لأمر ربهم الذي قال لهم:
فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
[البقرة:185]، ولهم فرحٌ آخرُ فوق هذا كلِّه يومَ قدومهم على الله، وفي الصحيح:
((للصائم فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة يوم لقاء ربه))[2].
فيفرح يوم قدومه على الله إذ يجد أعمالَه مدَّخرة له أحوجَ ما يكون إليها،
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ
مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل
عمران:30]. يوم يقوم الصائمون من قبورهم وإنَّ رائحة أفواههم أطيبُ من ريح المسك.
يومَ يُدعون من ذلك الباب المخصَّص لهم من أبواب الجنة ألا وهو باب الريان، يدخلون
منه، فإذا دخل الصائمون أغلِق ذلك الباب فلم يدخل منه أحد.
أمة الإسلام، لنحمدِ الله على هذا الدين القويم الذي هدانا له، نسير فيه وفق شرع
ربنا، وبالأمس صمنا، وبأمره اليوم أفطرنا، وهكذا قبولُنا لشرع ربنا.
هذا يومٌ يُظهر فيه المسلمون ذكرَ الله وتعظيمَه والثناء عليه،
وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ
وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
[البقرة:185].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا يومُ فطركم، هذا يومُ عيدكم، يوم فرحٍ وسرور بعبادة الرب الغفور.
أمة الإسلام، في هذا اليوم يعرف المسلمون عظيمَ نعم الله عليهم، ويعرفون قدرَ نعمة
الله عليهم، بما منّ عليهم بالخير والفضل، فيواسون محتاجيهم، ويعود غنيُّهم على
فقيرهم.
أمة الإسلام، أعيادُ أهل الإسلام أعيادٌ متميزة عن سائر أعياد البشر، ليست أعياداً
لمولد ذا وموت ذا، لا لمولد عظيم، ولا لحدثٍ أرضي ولا مادي، ولكنها فرحٌ بإكمال
الصيام والقيام، وفرحٌ بإتمام نسك الحج، أعيادٌ مرتبطة بديننا، ليست أفراحاً
مجرَّدة، ولكنها أعيادٌ شرعية يُثاب عليها.
أمة الإسلام، عيدُنا جديدٌ في يومه، أصيلٌ في نفسه، فله ارتباطٌ قويّ بركنين من
أركان إسلامنا.
أمة الإسلام، في عيدنا تجديدُ اللقاء، صلةُ الرحم، تقوية أواصر المودَّة بين
الإخوة، زيارة المريض، تفريج همّ المهمومين وكرب المكروبين والتيسير على المعسرين،
لتكون فرحة العيد فرحةً شاملة للجميع.
أمة الإسلام، أفراحنا ليست تحلّلاً من قيودِ الشرع، ولا طيًّا لبساط العبادة، ولا
هدمًا لبناء الأعمال، ولكنها أعيادٌ شرعية منضبطة بضوابط الشرع، إذاً فلنحذر أن
نبارز الله بالعصيان في هذا اليوم.
أمة الإسلام، أفراحنا ليست لإطلاق أيدينا وألسنتنا في المنكرات، ولاقتراف ما حرم
الله علينا من اختلاطٍ محرم أو غناء محرَّم أو فحش في القول والعمل. إنَّ المسلم
زكيّ القلب، مهذَّب النفس والسلوك، لا تزيده الأحداث إلا ثباتاً ورسوخاً في إيمانه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أمة الإسلام، يقول الله جل وعلا:
ٱللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ ٱلْمَلَـٰئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ
ٱلنَّاسِ [الحج:75]، ويقول وهو أقسط القائلين:
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا
يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
اختار محمداً ، فجعله خاتمَ الأنبياء والمرسلين، وجعل
شريعتَه خاتمةَ الشرائع، وألزم أهلَ الأرض كلَّهم طاعته وأتباعه:
قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ
إِنّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا
[الأعراف:158].
اختار أمتَه فجعلهم خيرَ الأمم وأفضلَها،
كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
[آل عمران:110].
بعثه الله على حين فترة من الرسل واندراسٍ من العلم، وقد بُدِّلت الشرائع، وحُرّف
الكلم، وهام الناس في شعب الضلال وأوديته، بعثه الله وقد غلب الشركُ على أهل الأرض،
فعبدوا الملائكة والأنبياء، والأشجار والأحجار والحيوان، زاعمين أنها تقربهم إلى
الله. بعثه الله في الحرم وهم يأكلون الميتة، ويأتون الفواحش، ويسيؤون الجوار،
ويقطعون الأرحام، ويتسلَّط القوي على الضعيف. بعثه الله بالهدى ودين الحق، فكان
غريباً بين قومه، لكنه امتثل أمرَ ربه، فدعا قومه إلى الله، وحذَّرهم من عبادة
غيره، ودعاهم إلى إخلاص الدين لله، وأن يتركوا ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم من
عبادة غير الله، دعاهم إلى أداء الأمانة وصدق الحديث وصلة الرحم والإحسان إلى الجار
والكفِّ عن المحارم والدماء، نهاهم عن الفواحش وعن قول الزور وأكل مال اليتيم وقذف
المحصنات، حذَّرهم من كلِّ سوء، ودعاهم إلى كل خير.
وقد عانى الشدائدَ في دعوته، فقابلوه بالتكذيب، وقالوا: ساحر، وقالوا: مجنون،
وقالوا: شاعر، وقال: مفترٍ، والله يعلم كذبَهم وأنهم يعلمون كذبَ ما يقولون،
فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ
[الأنعام:33]. لكنَّه صبر على كلِّ الأمور، صبر وصابر وهاجر وجاهد، فعاش غريباً
بينهم، فبدأ الإسلام غريباً، وبدأ النبي وأصحابُه غرباء، غربةَ رسالةٍ وعقيدة، لا
غربة وطن ونسب وقبيلة، لكنه صابر وهاجر وجاهد في الله حق جهاده حتى أظهر الله دينه
وأعلى كلمته.
فلمَّا دبّ الضعف في الأمة الإسلامية وتسلَّط عليها أعداؤها من شياطين الإنس والجن
وحصلت الفرقةُ وضعفت الديانة عاد الإسلام غريباً.
أجل، عاد غريبا في توحيد العبادة، بين أقوام ينتسبون إلى الإسلام ولكنهم بعيدون عن
الإسلام، عبدوا غيرَ الله، وعظَّموا قبورَ الأموات، وطافوا بها، ونذروا وذبحوا لها،
وهتفوا بأسمائها في الشدائد، وعاكسوا بذلك فطرة الله.
عاد الإسلام غريبا في عبادته، فاستُخِفّ بالصلاة، وضيِّعت الزكاة، واستُخفَّ بشعائر
الإسلام، بين من ينتسبون إلى الإسلام وللأسف الشديد.
عاد الإسلام غريبا في معاملاته، فإذا ذكرتَ الربا وأن الله حرَّم التعامل بالربا
وجعل التعامل به حربا لله ورسوله،
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ
ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]،
وَأَحَلَّ ٱللَّهُ
ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ [البقرة:275]،
استغربوا هذا الأمر، وقالوا: الربا من ضروريات العصر، فاستبدلوا البيعَ الحلال
بالربا المحرّم، واستبدلوا الصدقَ والبيان والوضوح بالكذب والغشِّ والخيانة،
فأُكِلت أموالُ الناس بالباطل.
عاد الإسلام غريباً في حمايته للأعراض، بين أقوامٍ استباحوا السفورَ وحاربوا
الحجاب، ودعَوا إلى الرذيلة باسم الفضيلة معاكسةً لفطرة الله.
عاد الإسلام غريباً حينما جاءت أوامره تُلزم الأمة الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن
المنكر، الأمرَ بكل ما يحب الله، والنهي عن كل ما حرم الله، لأن الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر صمام أمان هذه الأمة، وسياجٌ منيع يحفظ الدماء والأموال والأعراض،
فيَستنكر أولئك ذلك لأن الله غيّر فطرهم، فرأوا الباطل حقًّا والحقَّ باطلا،
أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء
عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن
يَشَاء [فاطر:8].
عاد الإسلام غريباً في أحكامه، ولا ترى في العالم الإسلامي محكِّما لهذه الشريعة في
الدماء والأموال إلا هذا البلد حماه الله وصانه وحفظه من كلِّ سوء. إذاً فأحكام
الشريعة غريبة بين المسلمين وللأسف الشديد.
عاد الإسلام غريباً، تكاثرت عليه دولُ الكفر والضلال،
يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ
بِأَفْوٰهِهِمْ وَيَأْبَىٰ ٱللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ
ٱلْكَـٰفِرُونَ [التوبة:32]، وقد وعدَنا الله إن
صدقْنا في إيماننا النصرَ والتأييد والتمكين،
وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ
وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلأرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ
ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ
لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ
يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ
ٱلْفَـٰسِقُونَ [النور:55].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1]
أخرجه الترمذي في البر (1987)، وكذا الدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي
الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن
سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ به. وقال: "قال محمود:
والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند
(5/153) عن وكيع، عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ،
فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه
الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي
هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح
على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين"، ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه
الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160).
[2]
أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
|