زوجتي .... !
الكاتب: الأستاذ علي الطنطاوي
قال لي
صديق ، معروف بجمود الفكر ، وعبادة العادة ، والذعر من كل خروج
عليها أو تجديد فيها . قال:
- أتكتب عن زوجك في الرسالة تقول إنها من أعقل النساء وأفضلهن ؟ هل
سمعت أن أحداً كتب عن زوجه ؟ إن العرب كانوا يتحاشون التصريح
بذكرها ، فيكنون عنها بالشاة أو النعجة استحياء وتعففا ، حتى لقد
منع الحياء جريراً من رثاء زوجه صراحة ، وزيارة قبرها جهارا .
ومالك بن الريب لمّا عد من يبكى عليه من النساء قال :
فمنهن أمى وابنتاها وخالتى **** وباكية أخرى تهيج
البواكيا
فلم يقل وامرأتى . . وكذلك العهد بآبائنا ومشايخ
أهلنا . لم يكن يقول أحد منهم : زوجتى ؛ بل كان يقول : أهل البيت
وأم الأولاد ، والجماعة ،والأسرة ، وأمثال هذه الكنايات . أفترغب
عن هذا كله ، وتدع ما يعرف الناس ،وتأتى ما ينكرون ؟
قلت : نعم !
فكاد يصعق من دهشته مني ، وقال :
- أتقول نعم بعد هذا كله ؟
قلت : نعم ! مرة ثانية .
أكتب عن زوجتي فأين مكان العيب في ذلك ؟ ولماذا يكتب المحب عن
الحبيبة وهي زوج بالحرام ،ولا يكتب الزوج عن المرأة وهي حبيبته
بالحلال ؟ ولماذا لا أذكر الحق من مزاياها لأرغب الناس في الزواج .
والعاشق يصف الباطل من محاسن العشيقة فيحبب المعصية إلى الناس؟ إن
الناس يقرؤون كل يوم المقالات والفصول الطوال في مآسي الزواج
وشروره ، فلم لا يقرؤون مقالة واحدة في نعمه وخيراته ؟
ولست بعد أكتب عن زوجي وحدها ؛ ولكنى كما كان هوجو يقول : "إني إذا
أصف عواطفي أبا ، أصف عواطف جميع الآباء" .
لم أسمع زوجاً يقول إنه مستريح سعيد ، وإن كان في حقيقته سعيداً
مستريحا ، لأن الإنسان خلق كفورا ، لا يدرك حقائق النعم إلا بعد
زوالها ؛ ولأنه ركب من الطمع ، فلا يزال كلما أوتى نعمة يطمع في
أكثر منها ، فلا يقنع بها ولا يعرف لذتها . لذلك يشكو الأزواج أبدا
نساءهم ، ولا يشكر أحدهم المرأة إلا إذا ماتت ، وانقطع حبله منها
وأمله فيها ؛ هنالك يذكر حسناتها ، ويعرف فضائلها . أما أنا فإني
أقول من الآن – تحدثا بنعم الله وإقراراً بفضله – إني سعيد في
زواجي وإني مستريح .
وقد أعانني على هذه السعادة أمور يقدر عليها كل راغب في الزواج ،
طالب للسعادة فيه ، فلينتفع بتجاربي من لم يجرب مثلها ، وليسمع وصف
الطريق من سالكه من لم يسلك بعد هذا الطريق.
أولها : أني لم أخطب إلى قوم
لا أعرفهم ، ولم أتزوج من ناس لا صلة بيني وبينهم . . فينكشف لي
بالمخالطة خلاف ما سمعت عنهم ، وأعرف من سوء دخيلتهم ما كان يستره
حسن ظاهرهم ، وإنما تزوجت من أقرباء عرفتهم وعرفوني ، واطلعت على
حياتهم في بيتهم واطلعوا على حياتي في بيتي . إذ رب رجل يشهد له
الناس بأنه أفكه الناس ، وأنه زينة المجالس ونزهة المجامع ، وهو في
بيته أثقل الثقلاء . ورب سمح هو في أهله سمج ، وكريم هو في أسرته
بخيل ، يغتر الناس بحلاوة مظهره فيتجرعون مرارة مخبره . .
تزوجت بنتاً أبوها ابن عم أمي لحا ، وهو الأستاذ صلاح الدين الخطيب
شيخ القضاء السوري المستشار السابق والكاتب العدل الآن . وأمها بنت
المحدّث الأكبر ، عالم الشام بالإجماع الشيخ بدر الدين الحسينى
رحمه الله . فهي عريقة الأبوين ، موصولة النسب من الجهتين.
والثاني : أني اخترتها من
طبقة مثل طبقتنا . فأبوها كان مع أبي في محكمة النقض ،وهو قاض وأنا
قاض ، وأسلوب معيشته قريب من أسلوب معيشتنا ،وهذا هو الركن الوثيق
في صرح السعادة الزوجية ، ومن أجله شرط فقهاء الحنفية (وهم فلاسفة
الشرع الإسلامي) الكفاءة بين الزوجين .
والثالث : أني انتقيتها
متعلمة تعليماً عادياً ، شيئاً تستطيع به أن تقرأ وتكتب ، وتمتاز
من العاميات الجاهلات ، وقد استطاعت الآن بعد ثلاثة عشر عاماً في
صحبتي أن تكون على درجة من الفهم والإدراك ، وتذوق ما تقرأ من
الكتب والمجلات ، لا تبلغها المتعلمات ،وأنا أعرفهن وكنت إلى ما
قبل سنتين ألقي دروساً في مدارس البنات ، على طالبات هن على أبواب
البكالوريا ، فلا أجدهن أفهم منها ، وإن كن أحفظ لمسائل العلوم ،
يحفظن منها ما لم تسمع هي باسمه.
ولست أنفر الرجال من التزوج بالمتعلمات ، ولكني أقرر – مع الأسف –
أن هذا التعليم الفاسد بمناهجه وأوضاعه ، يسيء على الغالب إلى
أخلاق الفتاة وطباعها ، ويأخذ منها الكثير مه0ïزاياها وفضائلها
،ولا يعطيها إلا قشورا من العلم لا تنفعها في حياتها ،ولا تفيدها
زوجاً ولا أما . والمرأة مهما بلغت لا تأمل من دهرها أكثر من أن
تكون زوجة سعيدة وأما.
والرابع : أني لم أبتغ الجمال
وأجعله هوو الشرط اللازم الكافي كما يقول علماء الرياضيات لعلمي أن
الجمال ظل زائل ؛ لا يذهب جمال الجميلة ، ولكن يذهب شعوورك به ،
وانتباهك إليه ، لذلك نرى من الأزواج من يترك امرأته الحسناء ويلحق
من لسن على حظ من الجمال ، ومن هنا صحت في شريعة إبليس قاعدة
الفرزدق وهو من كبار أئمة الفسوق ، حين قال لزوجه النوار في القصة
المشهورة : ما أطيبك حراما وأبغضك حلالا !
والخامس : أن صلتي بأهل
المرأة لم يجاوز إلى الآن ، بعد ثمن قرن من الزمان ، الصلة الرسمية
: الود والاحترام المتبادل ، وزيارة الغب ، ولم أجد من أهلها ما
يجد الأزواج من الأحماء من التدخل في شؤونهم ، وفرض الرأي عليهم ،
ولقد كنا نرضى ونسخط كما يرضى كل زوجين ويسخطان ، فما دخل أحد منهم
يوما في رضانا ولا سخطنا .
ولقد نظرت إلى اليوم في أكثر من عشرين ألف قضية خلاف زوجي ، وصارت
لي خبرة أستطيع أن أؤكد القول معها بأنه لو ترك الزوجان المختلفان
، ولم يدخل بينهما أحد من الأهل ولا من أولاد الحلال ، لانتهت
بالمصالحة ثلاثة أرباع قضايا الزواج.
والسادس : أننا لم نجعل بداية
أيامنا عسلا ، كما يصنع أكثر الأزواج ، ثم يكون باقي العمر حنظلا
مرا وسما زعافا ، بل أريتها من أول يوم أسوأ ما عندي ، حتى إذا
قبلت مضطرة به ، وصبرت محتسبة عليه ، عدت أريها من حسن خلقي ،
فصرنا كلما زادت حياتنا الزوجية يوما زادت سعادتنا قيراطا .
والسابع : أنها لم تدخل جهازا
، وقد اشترطت هذا لأني رأيت أن الجهاز من أوسع أبواب الخلاف بين
الأزواج ، فإما أن يستعمله الرجل ويستأثر به فيذوب قلبها خوفاً
عليه ، أو أن يسرقه ويخفيه ، أو أن تأخذه بحجز احتياطي في دعوى
صورية فتثير بذلك الرجل . والثامن : أني تركت ما لقيصر لقيصر ، فلم
أدخل في شؤونها من ترتيب الدار وتربية الأولاد ؛ وتركت هي لي ما هو
لي ، من الإشراف والتوجيه، وكثيراً ما يكون سبب الخلاف لبس المرأة
عمامة الزوج وأخذها مكانه ، أو لبسه هو صدار المرأة ومشاركتها
الرأي في طريقة كنس الدار ، وأسلوب تقطيع الباذنجان ، ونمط تفصيل
الثوب.
والتاسع : أني لا أكتمها
أمراً ولا تكتمني ، ولا أكذب عليها ولا تكذبني ، أخبرها بحقيقة
وضعي المالي ، وآخذها إلى كل مكان أذهب إليه أو أخبرها به ،
وتخبرني بكل مكان تذهب هي إليه ، وتعود أولادنا الصدق والصراحة ،
واستنكار الكذب والاشمئزاز منه . ولست والله أطلب من الإخلاص
والعقل والتدبير أكثر مما أجده عندها . فهي من النساء الشرقيات
اللائى يعشن للبيت لا لأنفسهن . للرجل والأولاد ، تجوع لنأكل نحن ،
وتسهر لننام ، وتتعب لنستريح ، وتفني لنبقي . هي أول أهل الدار
قياماً ، وأخرهم مناماً ، لا تني تنظف وتخيط وتسعى وتدبر ، همها
إراحتي وإسعادي . إن كنت أكتب ، أو كنت نائماً أسكتت الأولاد ،
وسكنت الدار ، وأبعدت عنى كل منغص أو مزعج .
تحب من أحب ، وتعادى من أعادى . إن حرص النساء على رضا الناس كان
حرصها على إرضائي . وإن كان مناهن حلية أو كسوة فإن أكبر مناها أن
تكون لنا دار نملكها نستغني بها عن بيوت الكراء.
تحب أهلي ، ولا تفتأ تنقل إلى كل خير عنهم . إن قصرت في بر أحد
منهم دفعتني ، وإن نسيت ذكرتني ، حتى أني لأشتهي يوماً أن يكون
بينها وبين أختي خلاف كالذي يكون في بيوت الناس ، أتسلى به ، فلا
أجد إلا الود والحب ، والإخلاص من الثنتين ، والوفاء من الجانبين .
إنها النموذج الكامل للمرأة الشرقية ، التي لا تعرف في دنياها إلا
زوجها وبيتها ،والتي يزهد بعض الشباب فيها ، فيذهبون إلى أوربة أو
أميركة ليجيئوا بالعلم فلا يجيئون إلا بورقة في اليد وامرأة تحت
الإبط ، إمرأة يحملونها يقطعون بها نصف محيط الأرض أو ثلثه أو ربعه
، ثم لا يكون لها من الجمال ولا من الشرف ولا من الإخلاص ما يجعلها
تصلح خادمة للمرأة الشرقية ؛ ولكنه فساد الأذواق ،وفقد العقول ،
واستشعار الصغار ،وتقليد الضعيف للقوى . يحسب أحدهم أنه إن تزوج
امرأة من أمريكا ، وأى امرأة ؟ عاملة في شباك السينما ، أو في مكتب
الفندق ، فقد صاهر طرمان ، وملك ناطحات السحاب ، وصارت له القنبلة
الذرية ، ونقش اسمه على تمثال الحرية . .
إن نساءنا خير نساء الأرض ، وأوفاهن لزوج ،وأحناهن على ولد ،
وأشرفهن نفسا ، وأطهرهن ذيلا ، وأكثرهن طاعة وامتثالا وقبولا لكل
نصح نافع وتوجيه سديد . وإني ما ذكرت بعض الحق من مزايا زوجتي إلا
لأضرب المثل من نفسي على السعادة التي يلقاها زوج المرأة العربية
(وكدت أقول الشامية) المسلمة ، لعل الله يلهم أحدا من عزاب القراء
العزم على الزواج فيكون الله قد هدى بي ، بعد أن هداني !
الشيخ علي الطنطاوي رحمة الله عليه
|